بسم الله رب الكون والصلاة والسلام على من لاذ بهم ذو النون
حقيقة الصوم :
هي الإمساك عما يأتي من المفطرات، بقصد القربة لله تعالى، وقد ورد في فضله أنه جنة من النار، وهو من الأركان التي بُني عليها الإسلام . واهتم بها الشارع الأقدس، وفي الحديث القدسي: ( كل أعمال ابن آدم عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصبر، فإنه لي وأنا أجزي به : فثواب الصبر مخزون في علم الله تعالى، "والصبر هو الصوم " .
والصوم زكاة الأبدان، وبه يدخل العبد الجنة، وإن نوم الصائم عبادة، ودعاؤه مستجاب، وخلوق فمه أطيب عند الله تعالى من رائحة المسك، وإن الملائكة تدعوا له حتى يفطر، إلى غير ذلك مما ورد في مدحه .
( الصوم وكذا كل عمل عبادي، إنما يعده أبناء العوام تكليفاً، ويعمل به تكلفاً، ولكن الخواص يرونه تشريفاً ولطفاً من الله جل وعلا ، ويرون أن لله في جعل العبادات وإجابها منَّة عظيمة ونعمة جسيمة على عباده، ويستقبلونها استقبال التشريف لا التكليف، بفرح وسرور ونشاط، بل ولذة وحبور من الخطاب .
يقول المرحوم الحاج الميرزا جواد آقا الملكي التبريزي (قده):
وكيف كان، فإن مراتب الصوم من جهة ما يصام عنه ثلاثة :
1) صوم العوام: وهو بترك الطعام والشراب والنساء، على ما قرره الفقهاء، من واجباته ومحرماته .
2) صوم الخواص: وهو ترك ذلك مع حفظ الجوارح من مخالفات الله تعالى .
3) صوم خواص الخواص: وهو ترك كل ما شاغل عن الله من حلال أو حرام .
ولكل واحد من المرتبتين الأخيرتين أصناف كثيرة، لا سيما الأولى، فإن أصنافه كثيرة لا تحصى بعدد مراتب أصحاب اليمين من المؤمنين، بل كل نفس منهم له حد خاص لا يشبه حد صاحبه، ومن أهل المراتب أيضاً من يقرب عمله من عمل مًن فوقه، وإن لم يكن منه .
وأما أقسام الصوم من جهة قصد الصيام، فينقسم الصائمون أيضاً إلى أصناف :
1) بعضهم ما قصدوا بصومهم قصداً، يكفي في عدم بطلان عملهم، بل صاموا لغير الله من خوف الناس، ومن أجل جلب النفع منهم، أو لجرد العادة المعموله بين المسلمين .
2) وبعضهم يكون صومهم مشوباً مع ذلك بشيء من خوف عقاب الله، ورجاء ثوابه .
3) وبعضهم يتمحض قصدهم لأجل خوف العقاب أو الثواب، والثاني قليل، والأغلب من هذا الصنف يشترك في قصده جهة دفع العقاب وجلب الثواب .
4) وبعضهم يدخل مع ذلك في قصدهم كونه مقرباً إلى الله وموجباً لرضا الله .
5) وبعضهم يتمحض قصدهم في جهة القرب والرضا .
وقد يقال: الأولى أن يتم يتمحض قصد بعض الكاملين في كونه تعالى أهلاً لأن يُعبد، ويخلص من شوب الرغب والرهب، رأساً حتى الوصول إلى لقائه والزلفى لديه، وكونه موفقاً لرضاه، ويعدون العمل من جهة الرغبة في الوصول ناقساً، ورأيت من عبّر عن مثل هذا العمل، بأنه عبادة النفس .
أقول: لا أظن نبياً ولا ولياً ولا ملكاً مقرباً يخلص جميع أعماله من ذلك، وعدَّ العمل بقصد أنه موصل إلى رضا الله وقربه وجواره عبادة النفس، كما في كلمات بعض أهل المعرفة إفراط، نعم لا بأس بان يكون لأولياء الله في بعض حالاتهم وتجلياتهم، حال يصدر منهم لجرد كونه تعالى أهلاً له، مع نسيان جهة القرب والرضا، ولكن لا أقول بإمكان دوام ذلك لأحد من الأنبياء فضلاً من غيرهم أو وقوعه، بل ولا أفضل العمل لذلك على العمل لشوق الوصول إلى جوار الحبيب تعالى، كيف ولا مرتقى فوق عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام ، والأخبار كاشفة عن كون بعض أعمالهم أو أغلبها لمجرد رضا تحصيل رضا الرب تعالى وقربه .
بل وأجسر وأقول: لا بأس أن يكون خوف العقاب أيضاً داخلاً في بعض الأحيان في قصودهم، كيف ومَن غلب عليه خوف عقاب الله بحيث يغشى عليه من ذكر جهنم، لا يمكن أو يتعسر أن لا يؤثر ذلك في أعماله أصلاً .
بل وظني أن أحوال الأنبياء والأولياء حتى سيدهم نبينا صلى الله عليه وآله كانت مختلفة، وسبب اختلافها، اختلاف تجليات أسماء الله تعالى لهم على وفق حكمة الله تعالى في تربيتهم وترفيع درجاتهم، وتقريبهم من جواره، وكان الله هو المتولي لرياضة قلوبهم بذلك حتى يكملوا، كما في بعض فقرات الزيارة " موالي لكم قلوب تولى الله رياضتها بالخوف والرجاء "، تارة يتجلى لهم بالأسماء الجمالية، فيستأنسون لربهم ويتمنون عليه، بل ويمنون على غيرهم بالتصرف في ملك مالكهم وسيدهم، وأخرى يتجلى لهم بالأسماء القهرية الجلالية، فتراهم عند ذلك يتضرعون ويستغفرون ويبكون، ويناجونه بهذه المناجات التي أغلبها الاستغفار والعوذة، وطلب النجاة من جهنم والنار، كيف واختلاف أحوال الأنبياء شيء لا يخفى على من له أدنى ممارسة بأخبارهم .
وقد روي لنا عن حالات رسول الله صلى الله عليه وآله أنه كان في بعض حالاته يقول: كلميني يا حميراء، ومع ذلك قد كان ينتظر وقت الصلاة ويقول: ارجني يا بلال، وكان في بعض الأوقات يتغير لونه وحاله عند نزول الوحي، وكان في بعض الأوقات يخاف عند هبوب الرياح من نزول البلاء، وكل ذلك كاشف عن اختلاف الأحوال، وهو لا يجتمع، مع أن يتمحض قصد العامل في جميع حركاته وسكناته هن جميع الوجوه، إلا كونه تعالى أهلاً للعبادة .